في ضوء الهجوم الإرهابي الدموي في باريس الذي أوقع ما لا يقلّ عن 12 قتيلاً، لا بُدّ من استعراض سريع لأبرز الملاحظات التي تمّ تسجيلها:
أوّلاً: إختيار مجلّة Charlie Hebdo الأسبوعيّة الفرنسيّة اليساريّة الساخرة لشنّ هجوم دمويّ في قلب باريس لم يأتِ من العدم، حيث سبق لمقّر المجلّة أن تعرّض للحرق بعد إلقاء قنابل "مولوتوف" عليه في تشرين الثاني من العام 2011، وسبق أيضاً أن تعرّض موقعها على شبكة "الإنترنت" لهجوم إلكتروني في أيلول من العام 2012. والنقمة على هذه المجلّة الساخرة يعود إلى تناولها أكثر من مرّة النبي محمد ونشر صور كاريكاتوريّة إعتُبِرت مسيئة له وللإسلام، الأمر الذي عرّضها دائماً للهجمات وللتهديدات إعتباراً من العام 2007.
ثانياً: النجاح في تصفية رئيس تحرير المجلّة، وأربعة مصوّرين، إضافة إلى شرطيّين وخمسة أشخاص آخرين، يعني أنّ منفّذي الهجوم تعمّدوا تنفيذه خلال دوام العمل، وربّما كانوا يراقبون المكان عن كثب، وأدركوا وجود رئيس التحرير وكبار موظّفيه قبل إطلاق العمليّة ضدّهم، بهدف ضمان نجاح أهدافها.
ثالثاً: توقيت العمليّة مدروسٌ أيضًا، حيث أنّه جاء بعد نوع من التراخي الأمني الجزئي، حيث أنّ السلطات الفرنسيّة كانت قد نفّذت إجراءات أمنيّة مُشدّدة خلال الشهر الماضي، بعد إطلاق تنظيم "الدولة الإسلاميّة" الإرهابيّ، دعوات لحثّ الشبّان الفرنسيّين على القيام بهجمات داخل فرنسا. وتعزّزت هذه الإجراءات خلال فترة الأعياد، قبل أن تخفّ وتيرتها في الأيّام الماضية، ما فتح الطريق أمام تنفيذ الهجوم الدموي والذي يُعتبر مدروساً وعميق التخطيط، وليس هجوماً عشوائياً على غرار بعض الحوادث الأمنيّة التي وقعت في فرنسا أخيراً(1).
رابعاً: أظهرت أشرطة "فيديو" لكاميرات مثبّتة في محيط مبنى المجلّة المستهدفة وأخرى صودف وجود حامليها هناك، تحرّك ثلاثة مُسلّحين ملثّمين بشكل إحترافي بعد تنفيذ العمليّة، وقيامهم بإصابة شرطي حاول إعتراضهم بالرصاص، قبل الإجهاز عليه وهو طريح الأرض من دون سلاح، قاطعين الطريق على محاولته التواصل كلامياً معهم. ثم قاموا بكل برودة أعصاب بمغادرة المنطقة على متن سيارة عادية سطوا عليها بقوّة السلاح، وإستعملوها للإبتعاد عن مكان الجريمة، قبل تركها جانباً، ليختفي أثرهم بعد ذلك. وفي كل هذا الوقت، كانوا يتصرّفون بإحتراف عال، ما يدلّ على أنهم خضعوا لتدريبات عسكريّة جعلتهم قادرين على تنفيذ هجوم مدروس، وتصفية رجال الشرطة الذين إعترضوا طريقهم، والإنسحاب من الموقع بخفّة، قبل الإختباء في مكان آمن.
خامساً: كان المسلّحون يرتدون ثياباً سوداء اللون شبيهة بتلك التي يرتديها عناصر "داعش"، وهم صرخوا بالعربيّة قائلين إنّهم ينتقمون للرسول، وإنّهم قتلوا "شارلي إيبدو"، وربّما كانوا يقصدون أنّهم أجهزوا على عَصَب المجلّة، خصوصًا وأنّ رئيس تحرير المجلّة يُدعى ستيفان شاربونييه ويُلقّب بإسم Charb، وليس شارلي.
سادساً: جاءت العمليّة في مرحلة دقيقة من التاريخ الفرنسي، لجهة التوتّر بين الإسلاميّين والعلمانيّين، والحديث عن تغيير على مستوى هويّة فرنسا الطائفيّة. وقد إستعر هذا الخلاف أخيراً بفعل نشر كتاب بعنوان Soumission (بمعنى التسليم أو الإستسلام) للكاتب الروائي ميشال أوالبيك يتحدّث فيه عن "فرنسا مسلمة" إعتباراً من العام 2022، وعن فوز "الإخوان المسلمين" فيها بالتحالف مع بعض الأحزاب الفرنسيّة. وقد أشعل هذا الكتاب الجدل المُستمرّ منذ سنوات بشأن ما يُعرف باسمIslamophobe أو الخوف من الإسلام.
سابعاً: من المتوقّع أن يُشعل هذا الهجوم الجديد الذي تعرّضت له فرنسا، وبمجرّد إنتهاء فترة الحداد وإستيعاب الصدمة، الصراع السياسي والفكري في فرنسا، والذي يضع "اليمين الفرنسي" في مواجهة مباشرة مع كل ما له علاقة بالمهاجرين المسلمين الذين نالوا الجنسيّة الفرنسيّة. وسيتمّ إعادة طرح - وبأعلى صوت، قضيّة الوجود الإسلامي المتنامي، وقوانين الهجرة ومنح الجنسيّة، وحرّية وسائل الإعلام، والحريّة الفرديّة، ومسألة إرتداء الحجاب، وبيع "لحم الحلال"، إلى آخره. ومن الضروري التذكير أنّ الإسلام هو الدين الثاني في فرنسا، وعدد المسلمين الفرنسيّين يُقدّر ما بين 5 إلى 6 ملايين نسمة، من أصل نحو 66 مليون فرنسي، علماً أنّ ثلثهم يمارس شعائره الدينيّة. وهم يتحدّرون خصوصاً من المغرب ثم الجزائر وبعدها تونس وغيرها.
ثامناً: ستشهد فرنسا جدلاً كبيراً بشأن مواقفها السياسيّة من الأزمات في الشرق الأوسط، وتدخّلها العسكري ضدّ تنظيم "داعش" وصولاً إلى عمليّاتها الأمنيّة ضدّ الإسلاميّين المتشدّدين في القارة الإفريقيّة، مع التذكير إنّه لم يمض بعد أكثر من يومين على إعلان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ندمه لعدم التدخّل العسكري ضد النظام السوري بعد إستخدام السلاح الكيميائي في ريف دمشق في آب 2013.
تاسعاً: من المتوقّع أن ينشط التنسيق داخل الإتحاد الأوروبي، وبين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وباقي الدول الغربيّة، لدرس سُبل مواجهة هذه الموجة الجديدة من العمليّات الإرهابيّة ضد المصالح الغربيّة، ولتشديد الإجراءات الحدودية، وتلك الخاصة بكل حامل هويّة غربيّة يتوجّه إلى سوريا أو العراق.
في الختام، الأكيد أنّ هجوم باريس سيزيد الإرباك الفرنسي والغربي عموماً إزاء سُبل التعامل مع الأزمات المتفاقمة في الشرق الأوسط، والأكيد أيضاً أنّ حدّة الخلافات السياسيّة داخل فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبلجيكا، على سبيل المثال لا الحصر، ستزداد، والأكيد كذلك أنّ الدين الإسلامي صار بحاجة لكثير من الأصوات الإسلامية العاقلة للدفاع عنه، في مقابل التشويه المُدمّر والمفتوح الذي تقوم به مجموعة صغيرة من المُسلمين المتشدّدين، وطبعاً الإرهابيّين بكل ما للكلمة من معنى.
(1)شهدت فرنسا خلال الأسابيع القليلة الماضية أكثر من حادث أمني، منها قيام شاب في العشرين من العمر بطعن ثلاثة رجال شرطة قبل أن يتم قتله بالرصاص، وسبق ذلك قيام سائق بدهس مجموعة من المارة في مدينة "ديجون" في وسط فرنسا هاتفاً "الله أكبر"، موقعاً 11 جريحاً.